تتشكّل الحضارات باجتماع البشر على أرض واحدة ويتفاعلون فيما بينهم، حيث تربطهم قواسم مشتركة مثل اللغة واللباس والعادات، يُسهم هذا التكاتف في بناء أنظمة متنوعة تشمل السياسية والاقتصادية والإدارية، إلى جانب تطوير الزراعة والعلوم والفكر . يُسخّر سكان تلك الأرض مواردها بما يتوافق مع احتياجاتهم، مما يؤدي إلى نشوء الحضارة، ومع تقدم العلم والعمل، تستمر الحضارة في النمو فتصبح مصدر إلهام لحضارات أخرى، حيث قد تُنقل أساليب زراعية أو معرفية تطوّرها الحضارات الجديدة لتتناسب مع بيئاتها وأفكارها، مما يُسهم في استمرارية التقدم الإنساني .
شهد التاريخ نشوء العديد من الحضارات التي شكّلت ملامح العالم، فلكل حاضرة وتأثيرها البارز في غيرها من الحضارات ومن أبرزها :
حضارة ما بين النهرين والتي أظهرت الكتابة والابداع في مجال الطب، والحضارة الفرعونية التي أبهرت العالم بإنجازاتها الهندسية والزراعية، ثم اليونانية التي أرست قواعد علم الفلسفة، ثم الحضارة الإسلامية التي طورت المعارف القديمة وابتكرت نهضة علمية وفكرية غير مسبوقة .
حضارة ما بين النهرين
حضارة ما بين النهرين هي المنطقة الواقعة نهري دجلة والفرات في الشرق الأوسط، والتي تمتد اليوم عبر العراق وأجزاء من سوريا وتركيا وإيران، تعد من أقدم الحضارات على وجه الأرض بما أثبتته المصادر التاريخية، حيث استفادت بدورها من النهرين في الزراعة وري الأرض بالقنوات وفرض قوانين صارمة للحفاظ على الماء .
شملت حضارة ما بين النهرين العديد من الحضارات بدءًا بالحضارة السومرية ثم وُضِعت تحت الحكم فأطلق على العاصمة (بابل) فأصبحت الحضارة البابلية ثم ظهرت الإمبراطورية الآشورية وحلت محلّ اسم (بابل) ثم الأسرة الكلدانية، فنلاحظ أن الحضارة جمعت العديد من العقول على أرض واحدة مما أبدعوا في مجال الزراعة والطب والعقاقير التي استخرجوها من النباتات المزروعة في أرضهم، بالإضافة لتقدمهم في الرياضيات والفلك، وتفوقهم في أنظمة الكتابة الأولى وهي الحروف الـمسمارية التي ابتدعها السومريون، حيث كانوا ينقشون ما يريدون على ألواح من الطين بالمسامير فسُميَت بذلك، فـ”استطاع الباحثون تمييز (٢٥) نباتًا مذكورًا باللغة السومرية أثناء أعمال التنقيب والحفريات الأثرية في مدينة (أور) جنوبي العراق”.
الحضارة الفرعونية
بدأت الإرهاصات الأولية للحضارة الفرعونية انطلاقًا من استفادتهم من نهر النيل وأطلق عليها حضارة وادي النيل واهتمامهم المنصب على نهر النيل نمّت عندهم القدرة على التنبؤ بأوقات الفيضانات لتفاديها، وعُنُوا بالمنطقة الرطبة التي حول النهر بتجفيفها وجعلها أرض زراعية وصالحة للعيش، وتوالت بعدها التطورات الفلكية والرياضية والطبية، وبرع المصريون في أساليب مختلفة للزراعة والسباقون في اختراع آلات الزراعة، وكذلك بمختلف الأعمال كالنسج وصهر الزجاج، والروائح العطرية بالإضافة لوصفات صبغ الشعر .
أولت الحضارة الفرعونية اهتمامًا بالغًا بالزراعة حيث زُرِعَت على أرضها العديد من النباتات المختلفة من الخضار والفواكه، والنخيل ونباتات الأصباغ والمعاصر الحجرية لاستخراج الزيوت وكذلك النباتات الطبية، وذلك صبّ اهتمامهم على الحدائق بتصميم هندسي واضح وأنظمة ري النباتات، ببوابات مزخرفة، فكانت للنباتات فوائدها الطبية المختلفة والجمالية .
ابتدع الفراعنة أنظمة كتابية فريدة وهي الكتابة الهيروغليفية، أي الكتابة الصورية، فكانوا يعبّرون عما يريدون خلال الصور، يرسمونها على الجدران، أو على الورق البردي التي أخذتها الحضارات من بعدهم، وانقسمت كتاباتهم لعدة أقسام :
الأول الخط الهيروغليفي وهي أقدم الخطوط المبتدعة من قِبل المصريون ثم الخط الهيراطيقي وهو خط الكهنة ويعد أسهل وأكثر سرعة من الهيروغليفي، ثم القسم الثالث وهو الخط الديموطيقي وهو خط العامّة من النّاس وكذلك يعد بدوره أكثر سهولة من الهيروغليفي .
الحضارة اليونانية
نظرًا لموقع اليونان الذي يربط بين الشرق والغرب جعلها أكثر قدرة على الأخذ من جميع الحضارات التي سبقتها وتضيف للتي بعدها .
ولأنها جاءت بعدهم بأخذها الأنظمة الكتابية من السومريين والفراعنة، قامت نهضتها بتبسيطها للأبجدية اليونانية مما جعلت القراءة أكثر سهولة فكان الاطلاع أكثر إقبالًا، واشتهرت اليونان بالعلوم المنطقية التي جعلت العقل محله الفكر والحكمة، واحترام الفرد لذاته، والبحث عن ما وراء الطبيعة والأمور الظاهرة، “واستطاعوا ولأول مرة في تاريخ الحضارة أن يتصوروا علمًا نظريًا مجردًا عن الأمور النفعية خلافًا لما كانت عليه النظرة في الشرق القديم والتي تمحورت حول الممارسة والتطبيق تلبية للحاجات العملية والاعتقادات الدينية آنذاك” فالحضارات التي سبقت الحضارة اليونانية اهتمت جلها بالأمور الصناعية والزراعية بعكس اهتمامات اليونان التي أولت العقل البشري كل الاهتمام بجعله أساسًا لكل العلوم، فالعلوم الفلسفية التي أظهرتها اليونان كانت الأساس الذي بنَت الحضارات الأخرى علومها فيُعد العلم اليوناني هو البداية الحقيقة للتقدم العلمي والفكري .
الحضارة العربية والإسلامية
مرّت الحضارة العربية بعدة عصور ولكل عصر وله نهضة علمية وفكرية وأدبية تختلف عن العصر الذي قبله، فالعصر ما قبل البعثة اشتهر بالأشعار ذات الصبغة الصحرواية، فكان الشعر العربي هو المخزون الفكري والثقافي والأدبي للمجتمع، يتشكل بتشكل الأحوال السياسية والاجتماعية للبيئة .
فمنذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ عصر صدر الإسلام بالإزدهار فالقرآن جمع الأمم ومختلف الألسن وانصب الاهتمام بالدراسات القرآنية وعلم القراءات وتفسير القرآن والحديث الشريف وحفظهم في الصدور، وكان الشعر السائد في عصر صدر الإسلام هو شعر مدح النبي صلى الله عليه وسلّم من شاعره حسّان بن ثابت .
ثم ثالث العصور العربية هو العصر الأموي الذي شهِد نهضة فكرية وأدبية نتيجة الترجمة والانفتاح على الثقافات الأخرى، استحدثت أغراضًا شعرية تختلف عن عصر صدر الإسلام وقبله كالشعر السياسي الذي عكس الصراعات بين الأحزاب فكان الملوك يشجعون الشعراء في البلاط الملكي على قول الشعر ونظمه، مما أسهم ذلك في تطور الحركة الأدبية .
ثم أبرز العصور العربية هو العصر العباسي ويسمى كذلك بالعصر الذهبي الذي فيه ازدهرت مختلف العلوم الأدبية والفكرية والرياضية والفلكية، فدخول أفواجًا غير عربية في الإسلام والتجارة جعلت الاحتكاك بغير العرب يخرج بنتائج إيجابية على العصر العباسي .
فكانت أول الخوارزميات المستخدمة في الحاسوب الآن من اختراع العرب، والجبر والأرقام، وكذلك علوم الفلك والاستدلال بالنجوم ومراقبتها، بالإضافة للعلوم الدينية واللغوية كالفقه وأصوله، وعلوم اللغة والنحو، كذلك علم الفلسفة الذي استمد من الفكر اليوناني وطورتها الثقافة العربية، وعلميّ الطب والصيدلة والكيمياء وعلوم التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع، بالإضافة لعلوم الشعر والأدب، فقد حظيَت علوم اللغة والأدب في العصر الجاهلي باهتمام كبير من قِبل الأدباء واللغويون فظهرت العديد من المؤلفات المنطلقة من دراسة القرآن والحديث الشريف لتسهيله على غير العرب لأن في تلك الفترة كثُر اللحن والخطأ في القراءة القرانية فظهرت العلوم اللغوية والنحوية للحفاظ على اللغة العربية والقرآن الكريم .
ختامًا..
تؤدي الحضارات دورًا محوريًا في تشكيل ملامح العالم الحديث، حيث تمثل أساسًا للنهضة البشرية وركيزة للتقدم الفكري والثقافي، بما أبدعته من معارف وقيم أسهمت في بناء الحضارة الإنسانية .
المراجع :
غنيمات، مصطفى عبدالقادر، الحضارة والفكر العالمي، دار الثقافة، الأردن، ط2، ص144، ص151.