الكتابات العربية القديمة في اليمن : بين خط الدولة وخط الناس
في عمق التاريخ اليمني، حيث تنطق الصخور والآثار بلغات ما زالت أصواتها تتردد بين الجبال، تتكشف لنا أسرار الكتابات العربية القديمة، وخاصة تلك التي وُجدت في جنوب الجزيرة العربية. هناك حيث ازدهرت حضارات سبأ ومعين وقتبان، لم تكن الكتابة أداة توثيق فحسب، بل مرآة للحياة الدينية والسياسية والاجتماعية .
في لقاء خاص مع الدكتورة عميدة شعلان، أستاذة الآثار والكتابات العربية القديمة بجامعة صنعاء، والمختصة بالتاريخ اليمني، تكشف لنا بعضًا من هذه الأسرار تقول : “الكتابة هي النصوص أو النقوش التي دُوِّنت بلغة أهلها في ذلك الزمان…” وكل حضارة وكل منطقة عربية كانت لها كتاباتها الخاصة، بل وأحرفها المختلفة أيضًا، ولكنها في إطار أبجدية ألف بائية، ربما الأبجدية المتعارف عليها أبجد هوز، ولكن الأبجدية الأولى استخدمت أبجدية مختلفة والتي هي ( هلحم قوشب ) والتي وُجدت فقط في بيت شيمش في فلسطين، ووجدت أيضًا في لغة خط الزبور اليماني .
المسند والزبور خطان بلغة واحدة
من أبرز ما يميز النقوش اليمنية القديمة وجود خطين مختلفين :
- خط المسند : الخط الرسمي للدولة، يُستخدم في التوثيق الديني والسياسي والرسمي، كُتبت به النقوش على الحجارة والمعادن والأخشاب، واحتفظ بجديته وهيبته، أما بقية الخطوط في الجزيرة العربية مثل الخط اللحياني والسمودي والصفائي والحبشي القديم، هذه كلها الخطوط مشتقة من خط المسند .
- خط الزبور : كان أكثر تحررًا، واستخدم في الحياة اليومية، ظهرت فيه ضمائر المتكلم والمخاطب، على عكس المسند الذي غلبت عليه صيغة الغائب، وغالبًا ما كُتب على أعواد النخيل .
بمعنى آخر : المسند هو خط الدولة ، والزبور هو خط الناس .
وتوضح د. شعلان أن الزبور لم يُكتشف فعليًا إلا في عام 1972، حين عثر الباحث الفلسطيني محمود الغول على أعواد مكتوب عليها بخط غير مألوف، وتبين لاحقًا أنه الزبور اليماني المذكور في الشعر العربي القديم .
اللغة اليمنية القديمة لم تكن مجرد لهجة، بل نظام متكامل بحروفه وقواعده، إن اللغة اليمنية القديمة تضم 29 حرفًا، بزيادة عن العربية المعاصرة، بعض هذه الحروف ما زال يُنطق بها في لهجات جنوب الجزيرة، مثل المهرية والسُقطرية، ما يفتح بابًا مهمًا لفهم النقوش من خلال اللهجات الحيّة .
اليمن في قلب الحضارات : الكتابات والنقوش اليمنية لم تكن معزولة. تشير الأدلة إلى وجود تأثيرات فينيقية، آشورية، ومصرية، بل إن نقوشًا يمنية وُجدت في مصر على توابيت تجار قدموا من اليمن محمّلين باللبان والبخور .
الزبور اليماني : اكتشاف التاريخ من قلب النقوش
في إحدى زوايا التاريخ اليمني القديم، وبين آلاف النقوش المحفورة على الحجارة، وُجد نوع آخر من الكتابة لا يُشبه الرسميات المنقوشة على جدران المعابد أو تماثيل الملوك، بل هو أكثر بساطة، وأكثر قربًا من الناس. هذا الخط هو ما يُعرف اليوم بـ “الزبور اليماني”.
وقد ظلت الإشارات إليه مبهمة في كتب التراث، حتى جاء العام 1972، حين عثر الباحث الفلسطيني محمود الغول على عودين من الخشب في اليمن، منقوش عليهما بخط غريب، ظن الغول أولًا أن الخط هندي، لكن لاحقًا أدرك أنه أمام خط عربي قديم، محرَّر من الخط الرسمي المسند .
الزبور في الشعر العربي القديم
الزبور لم يكن مجهولًا تمامًا، فقد جاء ذكره في بيتٍ شهير من شعر امرؤ القيس :
لِمَن طللٌ أبصرته فشجاني كخطِّ زَبورٍ في عُسيبٍ يماني
هذا البيت وحده كان مفتاحًا لكشف أن الزبور كان خطًا يمانيًا يُكتب على أعواد النخيل (العسيب)، ما أعطى الباحثين دليلًا لغويًا يؤيد المكتشف الأثري.
أول من قرأ الخط المسند
حين ننظر إلى نقوش خط المسند، تبدو لنا وكأنها طلاسم جامدة على جدران قديمة، لا يمكن فهمها إلا بكثير من الجهد والبحث .
وكان أول من فك أسرار هذه الحروف عالم من أهل اليمن، اسمه أبو محمد الحسن الهمداني، وفي القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، كتب الهمداني مؤلفه الشهير “الإكليل”، الذي بقي حتى اليوم أحد أهم المراجع في دراسة تاريخ اليمن القديم .
في هذا الكتاب، لم يكتفِ الهمداني بتأريخ الأنساب والممالك، بل قرأ نقوشًا مكتوبة بخط المسند، وتحدث عن الأبجدية، بل وعن خط الزبور أيضًا .
تقول الدكتورة عميدة شعلان : ورغم أن كثيرًا من أجزاء “الإكليل” مفقودة اليوم، إلا أن الموجود منه يكشف عن عبقرية لغوية فريدة، واطلاع واسع على النقوش التي دوّنت حضارة سبأ وحمير ومعين .

المدرسة الألمانية
في القرن العشرين، أصبحت المدرسة الألمانية هي المرجع الأول عالميًا في دراسة نقوش المسند والزبور .
قادت بعثات علمية إلى مأرب وشبوة وسرواح، ونشرت دراسات رصينة، كما ساهمت هذه الدراسات في :
- إنشاء معاجم لغوية متخصصة في النقوش اليمنية .
- إعادة قراءة النقوش .
- مقارنة الألفاظ بين المسند واللغات السامية الأخرى .
لكن رغم الجهود الأجنبية، تؤكد د. شعلان أن أبناء البيئة أقدر على فهم النقوش. فالعديد من الألفاظ التي عجز العلماء الأجانب عن تفسيرها، تبيّن لاحقًا أنها ما زالت تُستخدم في اللهجات اليمنية حتى اليوم .
لهذا، تقول :
“المتخصص الذي يجمع بين معرفة المعاجم، ولهجات اليمن، والنصوص التراثية، هو الأقدر على فهم النقوش حقًا.”
المرجع :