منقولة ،،
من خانقاه صلاح الدين إلى رعاية المحاصرين
شدّ انتباهي خبر يقول : أصبحت التكايا المصدر الوحيد للغذاء في غزة مع استمرار الحصار على القطاع. فتذكّرت، ونحن في زمن تغييب الوعي وتحريف الذاكرة والتاريخ، الدور الكبير للتكايا والأربطة وللتصوف في التاريخ الإسلامي : الدور الجهادي والعلمي والاجتماعي .
يرجع أصل التكايا إلى ما كان يُسمى خانقاه
وفلسطين، وهي غُرّة العالم الإسلامي، أول من أُنُشئت فيها خانقاه للصوفية على يد صلاح الدين الأيوبي بعد فترة حكم الدولة الفاطمية. كان صلاح الدين ثمرة من ثمرات النهضة الروحية الكبرى التي أشعلها الشيخ عبد القادر الجيلاني في المنطقة، حيث انتشرت مدارس التربية الروحية (الطرق الصوفية)، والأربطة، والزوايا للتعلم والعبادة والذكر ثم الخروج للجهاد في سبيل الله، أي تحقيق فلسفة إصلاح النفس أولًا .
والتكايا الصوفية منتشرة في كثير من مدن العالم الإسلامي، وخاصة في القدس، مثل التكية النقشبندية التي كانت تستضيف أسبوعيًا أهالي القدس والزائرين على موائد مجانية، وتكية خاصكي سلطان في البلدة القديمة شرقي القدس، التي لا زالت تقوم بدورها إلى اليوم في توزيع الطعام على الفقراء والمساكين وطلاب العلم والزائرين للقدس، والتكايا التي كانت في حارة المغاربة قبل هدم إسرائيل للحي، حيث كان للمغاربة حضور كبير في المدينة المقدسة .
ولكن ما هو التصوف الحقيقي ؟ ولماذا له هذا الدور الكبير في التاريخ الجهادي والعلمي والاجتماعي للمسلمين ؟ ولماذا يُحارَب وتُشَوَّه صورته ؟
التصوف الحقيقي هو علم تزكية النفس الذي جاء في قوله تعالى : ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصدرًا لكل هذه العلوم، ثم مع التابعين وتابعي التابعين برزت التخصصات أكثر . فمن العلماء من تخصص بعلوم القرآن والقراءات، ومنهم بعلوم الحديث، ومنهم بعلوم الفقه، ومنهم من تخصص في التربية والتزكية والسلوك، والذي سُمِّي بالتصوف .
وكانوا علماء موسوعيين، فيكون أحدهم فقيهًا ومحدّثًا وأصوليًا وصوفيًا ولغويًا، لكن يغلب عليه فن معين فيُشتهر به .
ولأنه من علوم الشريعة، فقد كان علماؤه مجمعين على الالتزام بالكتاب والسنة والاستقامة، ومن خرج عن هذا فليس له في التصوف نصيب، ورغم هذا لم يخل التصوف من المدعين والمنحرفين .
ولأنهم في أعلى مستويات الإيمان والارتباط بالله، كانوا في مقدمة المجاهدين في سبيل الله، من مالك بن دينار وإبراهيم بن أدهم إلى صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح، وفي العصر الحديث : عز الدين القسام، وعمر مكرم، وعمر المختار، وهداية الله، وأحمد عرفان الشهيد، وغيرهم ممّن تصدوا للاستعمار الحديث .
وهذا يفسر لماذا حارب الاستعمار التصوف بأساليب متنوعة، ومحاولة تشويه صورته، وتحجيم تأثيره، وإنشاء جماعات ضده، مما أصاب الأمة بالوهن، أي حب الدنيا وكراهية الموت، وحب الدنيا يعني حب المال والفساد والإفساد .
ولم يكن دور التصوف في عصرنا الحديث فقط في الجهاد والتربية والإصلاح الاجتماعي، بل كان كذلك في رفع راية الفكر المستنير والمعتدل دون غلو .