يقول د. جاسم السلطان ” الصين أو اليابان أو الولايات المتحدة الأميركية أو الغرب والتي نأخذ منها عوامل الحداثة : الآلة والمصنع والتنظيم الإداري، وتنظيم الشوارع، وكلها نحن نستعيرها من الأمم الأخرى، ملابسنا كمبيوتراتنا أجهزتنا كلنا نأخذ فيها، ولكن بقدرة قادر الجهاز المعرفي يفسر التقدم بالحصول على هذه الأشياء، وليس بالحصول على المعرفة التي خلف هذه الأشياء، وبالتالي الجهد ينصب على المزيد من شراء وتكديس هذه الأشياء، دون معرفة بذواتها وقدرة على إنتاجها في فضائنا، هذه القضية هي وعي زائف نتيجة الجهاز المعرفي، الذي لا يميز بين المنتجات المادية والأفكار وعالم الأفكار وعالم التنظيم الذي يقف خلف هذه .
فالذي يحتاج أن نجلبه هو هذا العالم الذي يقف خلف هذه المنتجات لا ذات المنتجات، لكن عندما يكتفي العقل بقضية المنتجات ويباهي بها، معناها هو محجوب عن هذا العنصر المهم جداً، والذي يؤدي إلى الفارق الحضاري . “
قد تكون ضحية دون أن تدري .. افهم كيف يخدعك الوعي الزائف …!
إن قضية “الوعي الزائف” التي تحدث عنها د.جاسم السلطان في تحليله، تلامس جوهر التحديات الحضارية التي تواجه مجتمعاتنا. وكأننا بالفعل نكتفي بقشور الحضارة الغربية الحديثة، ونغفل عن اللب والجذور المعرفية والفكرية التي أنتجت هذه المظاهر المادية، والتي تظن أن امتلاك الهواتف الذكية أو المصانع الحديثة يُعادل التقدم الحقيقي، بينما تبقى عاجزة عن إنتاج المعرفة أو الأنظمة التي صنعت هذه المنتجات. وهذا الفصل بين “القشرة المادية” و”الجوهر الفكري” هو جوهر أزمة التخلف في كثير من المجتمعات .
وهذه القضية – وما تؤدي إليه من استمرار التبعية للدول المتقدمة – اهتمّ بها الكثير من العلماء والباحثين ومنهم مانويل كاستلز الذي يرى أن الصراع الحقيقي في مجتمع الاستهلاك المتقدم يكمن في السيطرة على إنتاج المعرفة وتدفق المعلومات، لا مجرد استهلاك المنتجات، وهو ما يمثل أساس التنافس بين الدول. بينما يوضح سمير أمين أن تبَنِّي الدول النامية لنماذج استهلاكية سطحية والتركيز على الاستيراد دون فهم أسس الإنتاج والمعرفة يؤدي إلى استمرار تبعيتها الاقتصادية والثقافية .
تأثير وسائل الإعلام والإعلان :
تلعب وسائل الإعلام والإعلان دورًا كبيرًا في تعزيز هذا الوعي الزائف. فهي غالبًا ما تربط بين السعادة والنجاح وبين امتلاك أحدث المنتجات وأكثرها رفاهية. هذا يخلق حالة من التنافس الاستهلاكي، حيث يسعى الأفراد لاقتناء المزيد والمزيد من الأشياء، ظانين أن ذلك سيحقق لهم الرضا والتقدم، بينما هم في الواقع يدورون في حلقة مفرغة من الاستهلاك .
غياب النقد الفكري والتحليل العميق :
أحد أسباب استمرار ذلك هو غياب النقد الفكري والتحليل العميق للنماذج الحضارية التي نستوردها. نحن غالبًا ما ننظر إلى المنتجات الغربية على أنها نماذج جاهزة ومثالية، دون أن نسأل عن الظروف الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي أنتجتها، وهل هي بالضرورة مناسبة لواقعنا وقيمنا .
التأثير على الإبداع والابتكار المحلي :
عندما ينصب التركيز على استهلاك المنتجات المستوردة، يضعف الحافز للإبداع والابتكار المحلي. لماذا نبذل الجهد في تطوير منتجاتنا الخاصة إذا كانت الأسواق مليئة بالمنتجات “الجاهزة” من الخارج ؟ هذا يؤدي إلى تراجع القدرات الإنتاجية والمعرفية المحلية، ويجعلنا أكثر تبعية للآخرين .
كيف نتحرر من هذا الوعي الزائف ؟
- الحاجة إلى تحول في المنظور المعرفي : الخروج من دائرة الوعي الزائف يتطلب تحولًا جذريًا في منظورنا المعرفي. يجب أن ننتقل من التركيز على “ماذا نملك ؟” إلى “ماذا نعرف ؟” و “ماذا نستطيع أن نفعل ؟”.
يجب أن يكون هدفنا الأساسي هو اكتساب المعرفة وتطوير القدرات التي تمكننا من إنتاج وتطوير التكنولوجيا والمعرفة بأنفسنا، بدلًا من مجرد استهلاكها . - دراسة التجارب الناجحة : يمكن التوسع في دراسة تجارب دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، التي بدأت كمستوردة للتكنولوجيا ثم تحولت إلى قوى منتجة ومبتكرة. ما هي السياسات والاستراتيجيات التي اتبعتها هذه الدول في بناء قدراتها المعرفية والإنتاجية ؟ .
- تأصيل المعرفة : يجب التركيز على “تأصيل” المعرفة المستوردة، أي فهمها وتكييفها لتناسب سياقنا الثقافي والاجتماعي. هذا يتطلب ترجمة المعارف والعلوم، وتشجيع البحث العلمي والتطوير، وربط المؤسسات التعليمية والبحثية بالقطاعات الإنتاجية .
- تعزيز ثقافة الابتكار : يجب العمل على بناء ثقافة تشجع على الابتكار والإبداع وتقدّر المعرفة والبحث العلمي، يمكن تحقيق ذلك من خلال دعم المبادرات الفردية والشركات الناشئة، وتوفير البيئة المناسبة للبحث والتطوير .
- دور التعليم : يلعب التعليم دورًا حاسمًا في تغيير الوعي. يجب أن يركز التعليم على تطوير التفكير النقدي والتحليلي لدى الطلاب، وتشجيعهم على طرح الأسئلة والبحث عن الإجابات، بدلًا من مجرد تلقين المعلومات .
- مسؤولية النخب الفكرية والإعلامية : تقع على النخب الفكرية والإعلامية مسؤولية كبيرة في توعية المجتمع بمخاطر هذا الوعي الزائف، وتقديم رؤى بديلة تركز على بناء القدرات الذاتية والاعتماد على الذات المعرفي والاقتصادي .
واخيراً ..
إن الوعي الزائف ليس مجرد مفهوم فلسفي، بل هو حجاب يحجب عنَّا رؤية جوهر التقدم الحقيقي. إنه يجعلنا ننشغل بالمظاهر الخارجية للحضارة الحديثة، ونغفل عن الأسس المعرفية والفكرية التي تقف وراءها. الخروج من هذه الدائرة يتطلب جهدًا واعيًا ومستمرًا لتغيير طريقة تفكيرنا ونظرتنا إلى العالم. فالتقدم لا يُقاس بكمية الأجهزة التي نقتنيها، بل بقدرتنا على فهم واكتساب المعرفة التي صنعتها، ثم إعادة إنتاجها في سياقنا الثقافي. فبدلًا من أن نكون ظلالًا للحضارات الأخرى، علينا أن نضيء شموعنا الخاصة. ونسعى لبناء قدراتنا الذاتية في جميع المجالات. إنها معركة وعي، وإدراكنا لوجود هذا الوعي الزائف هو الخطوة الأولى نحو التحرر والنهضة الحقيقية .
المراجع :
- فيديو د. جاسم السلطان
- عصر المعلومات : الاقتصاد والمجتمع والثقافة – مانويل كاستلز
- التراكم على الصعيد العالمي : نقد نظرية التخلف – د. سمير امين