مولدها ونشأتها
هي سيدتنا العارفة بالله الشيخة سلطانة بنت علي الزبيدي من قبيلة بني حارثة الكندية، ولدت ببادية ( العُرّ ) وهي العراء الممتد شرقي قرية مريمة إلى نهاية الحوطة المعروفة اليوم { بحوطة سلطانة } والتي تبعد عن مدينة سيؤن بنحو ثلاثة أميال .
نشأت الشيخة سلطانة في أسرة بدوية تعنى بأمور الرعي والماء والكلأ وشرف الذات والنزعات وما شابهها من مظاهر حياة البادية، إلا أن سجايا هذه الفتاة كانت على غير ما يُعهد في سائر الفتيات حيث كانت تميل إلى الهدوء والعزلة وسكون الليل!
وما إن كبرت قليلا حتى بدأت تشعر باستقباح سلوك البداوة من ظلمٍ وبطشٍ وأذى والميول إلى الروحانيات، فجعلت تتطلع إلى سير الصالحين وتتابع أخبار نشاطهم وحركتهم في قرى حضرموت لنشر الدعوة، حتى أنها كانت إذا سمعت بانعقاد مجلس تسعى بقدميها إلى أقرب المساجد وحلقات العلم والدعوة إلى الله وحضرات الذكر لتنعم بسماع المذكرات وأناشيد الصالحين وأنغام المواجد المنتشرة آنذاك، وقد أصبحت الشيخة سلطانة مألوفة لدى الخاص والعام في تلك الناحية بهذا التفرد الغريب والتوجه العجيب .
فانطبع في قلبها النير الكثير من المواعظ والمذاكرات التي سمعتها، فعملت بها، واشتغلت بالطاعات من صلاةٍ وصومٍ وأذكار شغلًا تامًا أخذ كل وقتها أو جله وهي لم تزل بعد في سن صغير .
رغم محبة القبائل البدوية في حضرموت لآل البيت وتقديرهم للعلماء، فإنهم لم يتقبلوا دعوة التصوف التي تدعو إلى ترك السلاح والاشتغال بالعلم والعمل القلبي، وهو ما يُطلب في الرجال. وكذلك نساؤهم، فقد اعتادوا حياة خاصة لا علاقة لها بالمواجد والوعظ وحلقات الذكر، ولا بالاستغراق في مفاهيم الأحوال ومراتب الرجال .
شيوخها
وكان أول من وضعت عليه حمل الأخذ وسند الاتصال هو الشيخ محمد بن أبي بكر باعباد، وكان مقيما بالغرفة قريبًا من باديتها ومسكن قبيلتها. وهكذا اتجهت نحو شيوخ عصرها تزورهم في بيوتهم وتغشى أطراف مساجدهم وتجلس في حلقات ذكرهم ومواجيدهم. وكان أكثر اتصالها وارتباطها بالشيخ عبد الرحمن السقاف وأولاده، منهم أبي بكر السكرآن، ولها فيهم العديد من المقالات والعبارات. وقد تأثر بموقفها أخواها عمر ومحمد، فقد أصبحوا عونًا لها .
وقد أُطلق عليها لقب “رابعة حضرموت” لما اشتهرت به من الصلاح والزهد والأشعار والترقي في مقامات التصوف، وقد رأى كثيرون أنها تفوقت على العارفة بالله رابعة العدوية؛ لأنها نشأت من صغرها متدرجة في أحوال ومقامات السالكين .
شعرها
كانت الشيخة سلطانة شاعرة وكان أغلب أشعارها في المحبة الإلهية والأنس بالله وطاعته، كما أن لها قصائد في مدح شيوخها وتعظيم أحوالهم ومقاماتهم، وميلها إلى الأسلوب الشعبي بخلاف شعر العارفة بالله رابعة العدوية الذي كان فصيحًا .
وكانت تأتي رضي الله عنها إلى تريم، فتجلس في أواخر مجالس الإمام السقاف، تستمع إلى الدروس والأناشيد الصوفية، وتتبادل مع المشايخ المباحثات العلمية وغوامض المسائل، وقد تلقي على الحاضرين بعضًا من أشعارها أو من شعر غيرها من المحبين .
وكثير من أشعارها ما يزال يُنشَد إلى اليوم في حضرة الشيخ السقاف بمدينة تريم، منه ما تقوله في شيخها السقاف :
ألا يا مرحبا بالمُقبلينا . .. .
سراجٌ عند ظلمات الليالي.
لأنه خاض في بحر المحب.
ألا يا رب فانفعنا بجاهِه….
ونختم بالصلاة على محمد
وبالشيخ الذي فيهم يُضِينا
يُسَلِّي كلُّ من قلبه حزينا
وحافظ سادته عهدًا مكينا
نعم يا رب إنا مذنبينا
صلاة دائمة في كلِّ حينا
دورها في نشر العلم
- نجحت الشيخة سلطانة في إقناع قبيلتها – المعروفة بالشدة والبأس – بالفكر الصوفي، وقامت بدور فاعل في الإصلاح بين القبائل وحملة السلاح، وساهمت في نشر الطريقة الصوفية بينهم وتأمين الطرق .
- وكان لها رضي الله عنها رباط علم بنته في قريتها – العُرّ – تولت الإشراف عليه، والإنفاق عليه، وتنظيم شؤونه، وقد وُصف رباطها إضافة إلى كونه رباط علم بأنه ( رباط للفقراء ) يستقبل الضيوف والغرباء وإعانة المحتاجين .
ولم تتزوج الشيخة سلطانة طيلة حياتها وإنما استأنست بالعلم والتصوف والأشعار وقد كانت إلى جانب اجتهادها في العبادات ودعوتها إلى الله وارشادها للناس تقوم باعمال المنزل والأسرة خير قيام، تغزل وتنسج وتربي بعض الدواجن وتطبخ الطعام وغير ذلك .
وفاتها
توفيت ببيتها الموجود في حوطتها سنة 843 هـ وحزن الناس لموتها حزنًا شديدًا وهي التي كانت معروفة مألوفة لدى الخاص والعام، رضي الله عنها ورضي عنا بها .
لقد كانت مضرب المثل للمرأة الحضرمية الصالحة، النقية، التقية؛ جمعت بين العلم والعمل، وبذلت الجهد في خدمة مجتمعها، وأدت الحقوق لقبيلتها وشيوخها، وقبل ذلك كله أدّت حق ربها في أصدق الصور وأخلص النماذج.
وقد أثبتت بالواقع أن التصوف في حضرموت لم يكن طريق عزلة وخمول، بل دعوة شرف وعفة ومشاركة نزيهة وواعية في نشر محاسن الإسلام وإقامة حدوده في النفس والمجتمع والقبيلة. ولم يكن ذلك حكرًا على الرجال، بل كان للنساء فيه باعٌ ومقامٌ، كما جسدت الشيخة سلطانة نموذجًا رفيعًا .
ختامًا ،،
وهكذا، تبقى سيرة العارفة بالله الشيخة سلطانة بنت علي الزبيدي صفحة مضيئة من صفحات التاريخ الحضرمي، ومثالًا فريدًا للمرأة الصالحة التي جمعت بين الزهد والعلم والدعوة والإصلاح المجتمعي؛ فقد كانت رضي الله عنها نموذجًا للروحانية العميقة والعمل الدؤوب في سبيل الخير، ولم تقتصر دعوتها على العبادة الفردية، بل امتدت إلى ميادين التعليم والإصلاح بين الناس، حتى غدت سيرتها العطرة وأشعارها وأثرها العلمي والاجتماعي حاضرة إلى يومنا هذا في وجدان أهل حضرموت، تتردد في المجالس وتتناقلها الألسن، شاهدة على امرأة نذرت حياتها لله ورسوله ولدعوة الخير والصفاء، فجزاها الله عن أمتها خير الجزاء .
المرجع :
سلسلة أعلام حضرموت الشيخة سلطانة الزبيدية .